Рет қаралды 25
في قَلْبِ الصَّحْراءِ السُّورِيَّةِ، نَشَأَتْ مَدِينَةُ تَدْمُرَ كَواحِدَةٍ مِنْ أَعْظَمِ المُدُنِ القَدِيمَةِ الَّتِي ازْدَهَرَتْ بِفَضْلِ مَوْقِعِها الاسْتراتِيجِيِّ عَلى طَرِيقِ الحَرِيرِ، الطَّرِيقِ التِّجارِيِّ الشَّهِيرِ الَّذِي رَبَطَ بَيْنَ الشَّرْقِ وَالغَرْبِ. تَدْمُرُ لَمْ تَكُنْ مُجَرَّدَ مَدِينَةٍ عَادِيَّةٍ، بَلْ كانَتْ جَوْهَرَةً مُشِعَّةً فِي عالَمِ التِّجارَةِ وَالثَّقافَةِ، تَسْتَقْبِلُ القَوافِلَ المُحَمَّلَةَ بِالْبَضائِعِ الثَّمِينَةِ مِثْلِ التَّوابِلِ، الحَرِيرِ، وَالْعُطُورِ، لِتَتَحَوَّلَ بِذَلِكَ إِلَى مَدِينَةٍ غَنِيَّةٍ، تَجْمَعُ بَيْنَ ثَقافاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
شَوارِعُ تَدْمُرَ كانَتْ مَرْصُوفَةً بِالْأَعْمِدَةِ الضَّخْمَةِ، تَحِيطُ بِها المَعابِدُ وَالْمَسارِحُ الَّتِي تَشْهَدُ عَلى عَظَمَتِها. كانَتِ المَدِينَةُ تَتَمَيَّزُ بِمِعْمارِها الفَرِيدِ، حَيْثُ تَمْزِجُ بَيْنَ الطِّرازِ الرُّومانِيِّ وَالشَّرْقِيِّ، مِمَّا جَعَلَها مِثالًا لِلتَّنَوُّعِ وَالتَّسامُحِ. بَيْنَ أَسْوارِ هَذِهِ المَدِينَةِ العَرِيقَةِ، عاشَ شَعْبُ تَدْمُرَ حَياةً مُزْدَهِرَةً، مُتَمَتِّعِينَ بِثَرَواتِهِمْ وَمَكانَتِهِمُ السِّياسِيَّةِ.
فِي خِضَمِّ هَذَا الازْدِهارِ، ظَهَرَتْ عَلى السَّاحَةِ شَخْصِيَّةٌ أُسْطُورِيَّةٌ، المَلِكَةُ زَنُوبيا. وُلِدَتْ زَنُوبيا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ القَرْنِ الثَّالِثِ الميلادِيِّ، وَكانَتِ امْرَأَةً ذاتَ جَمالٍ آسِرٍ وَذَكاءِ حادٍّ. عِنْدَما تُوُفِّيَ زَوْجُها المَلِكُ أَذِينَةُ، الَّذِي كانَ حاكِمًا لِتَدْمُرَ تَحْتَ سُلْطَةِ الإِمْبِراطُورِيَّةِ الرُّومانِيَّةِ، تَوَلَّتْ زَنُوبيا العَرْشَ. لَكِنْ عَلى عَكْسِ مُعْظَمِ النِّساءِ فِي عَصْرِها، لَمْ تَقْبَلْ بِأَنْ تَكُونَ مُجَرَّدَ حاكِمَةٍ صامِتَةٍ أَوْ تابِعَةً لِلرُّومانِ. كانَتْ تَطْمَحُ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ.
زَنُوبيا، القَوِيَّةُ وَالطَّمُوحَةُ، بَدَأَتْ تَحْلُمُ بِتَوْسِيعِ نُفُوذِ تَدْمُرَ وَجَعْلِها إِمْبِراطُورِيَّةً مُسْتَقِلَّةً. قادَتْ جَيْشَها بِقُوَّةٍ وَحِكْمَةٍ، وَاسْتَطاعَتْ خِلالَ فَتْرَةٍ وَجِيزَةٍ أَنْ تَسْتَوْلِيَ عَلى مِصْرَ، الَّتِي كانَتْ فِي ذَلِكَ الوَقْتِ جُزْءًا مِنَ الإِمْبِراطُورِيَّةِ الرُّومانِيَّةِ، بِالْإِضافَةِ إِلَى مَناطِقَ واسِعَةٍ فِي آسِيا الصُّغْرَى. امْتَدَّتْ إِمْبِراطُورِيَّتُها لِتُصْبِحَ واحِدَةً مِنْ أَكْبَرِ القُوَى فِي الشَّرْقِ. خِلالَ حُكْمِها، كانَتْ تَدْمُرُ مَرْكَزًا لِلثَّقافَةِ وَالتَّعْلِيمِ، وَكانَتْ زَنُوبيا تَفْخَرُ بِإِجادَتِها العَدِيدَ مِنَ اللُّغاتِ مِثْلَ الآرامِيَّةِ وَاليُونانِيَّةِ وَاللاتِينِيَّةِ.
لَكِنَّ طُمُوحَ زَنُوبيا لَمْ يَمُرَّ دُونَ مُلاحَظَةِ الإِمْبِراطُورِيَّةِ الرُّومانِيَّةِ. الإِمْبِراطورُ الرُّومانِيُّ أُورْلِيَان، الَّذِي لَمْ يَقْبَلْ بِهَذَا التَّحَدِّي، قادَ حَمْلَةً عَسْكَرِيَّةً كَبِيرَةً لِاسْتِعادَةِ المَناطِقِ الَّتِي اسْتَوْلَتْ عَلَيْها زَنُوبيا. وَعَلى الرَّغْمِ مِنْ شَجاعَةِ زَنُوبيا وَجَيْشِها، فَقَدْ واجَهَتْ هَزِيمَةً فِي مَعْرَكَةٍ حاسِمَةٍ قُرْبَ مَدِينَةِ أَنْطَاكِيَّةَ. وَبَعْدَ هَذِهِ الهَزِيمَةِ، فَرَّتْ زَنُوبيا إِلَى تَدْمُرَ، لَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَمامَها خِيارٌ سِوَى الهُرُوبِ نَحْوَ الصَّحْرَاءِ. غَيْرَ أَنَّها قُبِضَ عَلَيْها قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَى وِجْهَتِها.
تَمَّ أَسْرُ زَنُوبيا وَاقْتِيادُها إِلَى رُوما. وَهُنا تَتَبايَنُ الرِّواياتُ: هُناكَ مَنْ يَقُولُ إِنَّها أُعْدِمَتْ، وَهُناكَ مَنْ يَرْوِي أَنَّها عاشَتْ بَقِيَّةَ حَياتِها كَنَبِيلَةٍ فِي رُوما بَعْدَ أَنْ أُعْجِبَ بِها الرُّومانُ لِجَمالِها وَذَكائِها.
وَرَغْمَ أَنَّ زَنُوبيا لَمْ تَتَمَكَّنْ مِنْ تَحْقِيقِ حُلْمِها فِي بِنَاءِ إِمْبِراطُورِيَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، إِلَّا أَنَّ قِصَّتَها تَحَوَّلَتْ إِلَى أُسْطُورَةٍ تَرْوِي شَجاعَةَ امْرَأَةٍ تَحَدَّتْ إِمْبِراطُورِيَّةً قَوِيَّةً. بَقِيَتْ زَنُوبيا رَمْزًا لِلْحُرِّيَّةِ وَالقُوَّةِ، وَتَظَلُّ تَدْمُرُ مَدِينَةً تُخَلِّدُ ذِكْرَاها، شاهِدَةً عَلى عَصْرٍ مِنَ العَظَمَةِ وَالازْدِهارِ.