هذه العبرة لو تدرين ما وقعها في محجري يا غالية... من كلمات شاعر حلب حسام الدين الخطيب , ومن تلحين الأستاذ بكري كردي وكان قد وضع فيها الأستاذ رحمه الله ذُروةَ أحاسيسه وعُصارة أشجانه وعواطفة وهي قطعةٌ عاطفية ٌ نفيسِّةٌ تُصوِّرُ المعاني تصويراً دقيقا , بديعا , وتنساب ألفاظها رقةً وحنانيةً نظم القصيدة هذه العبرة لو تدرين ما وقعها في محجري يا غالية هل رأت عيناك في ذراتها حبّة المهجة حسرى طا فية ...................... يا طاغية ............................ إنَّها تأبى سقوطاً في الثرى فانظري كيف استقرّت نامية ....................... يا لاهية ............................ هذه اللؤلؤة البيضاء ليست سوى قلبي استوى في الآنية ........................ يا هاوية ......................... أترى تلفظها العين وكيف تُرى تلفظها مجافية ........................يا جافية ........................... إن عيناً ليس فيها عبرة من جنى الوجد لعينٌ ساهية ...............ُ....... يا ساهية ........................... وفؤاداً لم يُذقه الحُبُّ لا يدركُ العيشةَ إلا نابية ......................يا نابية .............................. هذه القصيدة ، والخّريدة الفريدة ، هي من يتيماتِ الدهر ، وعُقيان و قلائد النَّحر ، نظماً ولحناً معنىٍ ً ومبنى وهي من أبدع ما قيل في الدموع ، وما لفظته مُهَجُ الضّلوع ، في معانيها وصفٌ للعّبْرَة ، فيه كلّ ُعِبْرَة إنّها تتحدث وبتوصيف دقيق ، عن تلك العبَرَات اللؤلؤية ، والتي ذرفتها حسرةً وأسىً ، عيونٌ لطالما أرَّقها السُّهد ، وأبكاها البُعْدُ .. ُيخاطب ذلك المُحِبُّ .... حبيبَته التي هامَ فيه وجداً ، وذابَ عليها صبابةً و جوىً وسُهداً ********************************************* فيقول لها : كلما ذكرتكِ في بالي ، وعقلي وقلبي وخيالي ، خنقتني الدُّموع ، وفاضت منّي العبرات هل تدرين ما وقع هذه الدموع في مِحْجَري ، وترقرقها في آماقي وأعماقي يا غالية ؟ هل شاهدتْ عيناكِ الصافية المُنَعَّمة ، والتي لم تذق غير الجمال ، ولم تعرف إلا التَّرفَ والغُنْجَ والدَّلالْ تلك الدمعة التي ذرفتُها ، والتي ما هي إلا مهجتي الحانية ، والتي فاضت حسرةً كدمعة طافية .. يا طاغية ؟ إنَّ مهجَةَ دمعي تأبى أن تسقطَ على الأرض ـ وتضيع في الثرى ، فانظري كيف استقرَّتْ وبقيت في محاجرها وقد تكسرت فيها النِّصال على النّصال ، وتنامى الأسى فيها يوماً بعد يوم ، وأنتِ غافلة عني ولاهية .. يا لاهية هذه الدمعة الغالية والتي فيها كل معانيكِ ، ما هي إلا قلبى المضنى، وفؤادي المعنّى ، والذي استقرّ في جفني ، فكان له خير آنية يا هاوية ولكن حينما يضيق بدمعتي تلك ، ساحُ جفني ، ويغلبها طوق الصبر والإصطبار ، فكيف تُرَاها ستلفظ دمعتي ؟ وتنثر مهجتي ؟ هل هو عن جفاء ؟ أم ماذا يا مجافية ؟ سأقول لكِ شيئاً ، يا من لاتعرفين مُهَج الدموع ، ويا من قلبُها أقسى من الحجر : العيونُ التي لا تفيضُ بدموعٍ أثمرَها شوقٌ وعشقٌ ، وحبٌّ ووجدٌ ، لَهْيَ عيونٌ خاوية و مجافية ساهية .. يا جافية والفؤادُ الذي لم يذقْ في عمُرِهِ لذَّة الحبّ ، أوطعمةَ الوجد ، فعيشُ صاحبه نابٍ ، وبعيدٍ كلَّ البُعد عن السعادة الحقيقة هل فهمتِ يا نابية ؟ ********************************************************** هذا بعضُ ما جالَ في خاطري حول المعنى ، وأما حول اللحن والمغنى ، فهو مما لا يقلُّ نفاسة ً ، وجمالاً وعذوبة ، عن معاني النظم ، ودراري السَّبك يبدأ اللحن بمقدمة موسيقية راقية جداً ، وغاية تامّة في استرخاء الخيال واسترساله نحو التذكر والذكريات ، لحنٌ ينشر عبقَ وفوحَ الجوِّ المُخملي الرَّاقي مبطناً بأسى وحزن دفين حيث يرسُمُ فوحُ اللّحن فيها صورة وهييئة ً ، طابِعُها الحزن ، وشذاها الشَّجن ، وبتصاعدٍ سُلَّمٍّي موسيقيٍّ أنيق ومدروس بعناية فائقة ، وبتشابك هندسي بديع وجميل لاحظوا التدرُّجَ اللحنيَّ في السِّياق ، وكيف بنى رأسَ اللحن مع عقِبِهِ ، وبتسلسلٍ ذهبيّ ، ينسابُ مع الإحساس الإنساني وبكل رقة وشفافية ، ورومانسية خالصة ، مُلفَّحَاً كلُّ ذلك بطابَعٍ حزين نلاحظ أنَ بكري كردي رحمه الله ، يستخدم الأجزاء الحزينة في مقام النهاوند وضمن مناطق دقيقة يعرفها الملحنون ، ويخبرون بمواطنها جيداً ، وحينما يحتاجون لطروقها وضمن التعبير الخياليِّ الحزين المقدِّمة تنقسم إلى سلسلتين في التدرُّج : السلسلة الاولى وهي التي تبدأ في 6 ثانية وتنتهي عند 35 ثانية ثم تُعاد نفسُ السلسلة مرة ثانية ، للتأكيد على حضورها ، ومن 35 ثانية لتنتهي في الدقيقية وأربع ثواني ( 4: 1 ) ثم تأتي السلسلة الثانية ضمن المقدمة الموسيقية الرائعة لللحن ، ومسارها ضمن أجناس هي أعلى مما ورد في أجناس السلسة الأولى وقد كانت بدايتها في ( 4: 1 ) وانتهت مع التكرار طبعا في زمن (48 : 1 ) لاحظوا المسار في اللحن ، والسيرَ فيه يمشي بمبدأ الذهاب والإياب ، صدّ وردّ، وبأسلوب سردي عفوي وبسيط لللحن ( من حيث جريانه ومشيه) لا من حيث قيمة سُعَيراته .. إلى أن يصل في السلسلة الثانية إلى حركة إيقاعية مختلفة المشي والسير ، وقد مهّد لها كثيراً إلى أن أتت ووافت ، ولها كل معنى جميل ، , وحضور قوي ومميز وهي المحصورة في هذين الزمنين ، بداية ونهاية ( 37:1 وحتى 42:1 ) كما ذكرت آنفاً فالمقدمة الموسيقية هذه ، هي قمة في المتانة والتماسك ، وقوة الشعور والإحساس ، وقد تمّ إيرادها بتسلسل منسجم ومتناغم ، وبترادف متلاحم ، لا غبار عليه ولا قول . ************************************************************ ثم يبدأ الغناء ( والقطعة طبعاً هي من مقام النهاوند ) نلاحظ أنَّ إحساس اللحن ، والنطق فيه يوحي بلهجة خطاب رقيقة ،مفعمة جداً بالشوق والرومانسية ، واللطف واللين .. ولو دقَّقنا في متطلبات معنى النظم وهو : هذه العبرة لو تدرين ما وقعها في محجري يا غالية فسنجد أ نه أعطاها كل ما تستحقه وتتطلبه من معنى لحني - تصويري لها وبكل بلاغة المعنى يتطلب : 1- خطاباً ..يكون رقيق اللهجة ، ناعم النَّبرة ، قويّ التأثير ، بطريقته الغير مباشرة 2- عتاباً فيه لطف مع قوة أيضاً 3- إشعار المخاطب بالأسى والألم والحسرة .. وقد ورد هذا الإحساس في نهاية جملة يا غالية الأولى ثم بأسى واستعطاف منه أكثر عند مناداته لها بيا ( غالية ) الثانية نلاحظ أنه في هذه القصيدة اتبع بكري كردي نمطاً جميلاً جداً وهو مناداة محبوبته وعند نهاية كل كلمة من بيت النظم بكلمة توازيها من حيث القافية ، وتختلف معها من حيث الغرض والغاية والنداء فمثلا عندما ينتهي البيت الاول بيا طافية .. يناديها ( بيا طاغية ) في البيت الثاني ينتهي أيضاً ( نامية ) .. يناديها ( بلاهية ) في البيت الآخر أيضا ينتهي بلفظة ( مجافية ) فيناديها ( بيا جافية ) سياق جميل وفكرة جديدة في تلحين القصيدة ، وبما يمثل هذا النداء في الأداء ، تجسيدَ لوحةِ المشهد ، وكأنه حقيقة واقعة وبما ينقل المستمع إلى جوٍّ يقترب من المشاهدة ، ويجعله يتعايش مع حالة المحبوب وبصورة قوية جداً وهو يخاطب محبوبته التي لا ترقّ لدمعته ، ولا تصغي لشكوته حكايةُ شرْحٍ للحالِ كاملة .... اقتضبها بكري كردي ، وضمن هذا البيت الأول ، وبأسلوبٍ مُشَوِّقٍ جذّاب ، و روائي بليغ بديع أما في البيت الثاني : هل رأت عيناك في ذراتها حبّة المهجة حسرى طا فية ...................... يا طاغية ............................ فهو غاية في الإعجاز من حيث السياق والتفاعل *************************************************** 1- جملة هل رأت عيناك في ذراتها .. ساقها بكري كردي بصيغة سؤال ، وإخبار وضمن ثوبٍ لحنيٍّ متناسب جداً مع ما تطلبه النظم من معنى وكرَّر السؤالَ عليها مرتين أو ثلاث مع متابعة رائعة لعزفٍ آليٍ يخدُم المعنى الذي أراده ، والسؤالَ الذي طرحه ، وبتدرُّج لحنيّ آليّ موسيقيّ عذبٍ وجميل ، وبما يكمل حالة السائل ، ويؤكد فيها على غاية ما يصبو منه بطرحه ذاك 2- ذروة التأثير والقوة الشعورية التي يصل إليها المستمع المتابع كانت في جملته عندما ناداها ( بيا طاغية ) لأنَّها وردت بعد سؤال تقريري لا جواب عليه .. ولذا استلزم بمناداتها وإحقاقها بيا طاغية تطابق وصفي دقيق ، وتلاحمٌ كأقوى ما يكون بين الجملة واللحن في البيت الثالث : يتصاعد اللحنُ بقوّة عارمة ، ليصل للمناطق الجوابية لللحن والنظم والإنفعال , ونلاحظ أن بكري كردي ساق التريولات الموسيقية ضمن التصاعد اللحني ذاك ، ووظّفها في محلِّها المناسب جداً ، والذي يتطلبه السياق ويلتذُ معها وبه جداً ، وبذلك الإيراد المُطلّ ثم يعلو صوت ذلك المحبّ العاشق ، الشاكي المعاتب ، بالتعبير عن بغيته ومراده وضمن نداءات لمحبوبته ، وفي مناطق جوابية عالية بالنسبة للطبقات الباقية الموجودة في لحن القطعة ، تأكيداً وتوثيقاً على مدى حسرته وألمه ، ولوحةِ شرحِ حاله ثم لينتهي ذلك العنُفوان في الإنفعال النفسي لدى المحبّ الوامق ، وضمن نهاياتٍ رائعة ، تسلسلتْ بهبوطٍ لذيذ ، لتخدمَ هذا المعنى المشار إليه ، وبأتمّ وجه بعد هذه الملحمة العتابية والشاكية ، ينتقل بكري كردي إلى حال مغايير تماماً وبعيداً عن إيقاع ذلك الحزن الإنسيابي المؤثر .. إلى حال من الحركة والنشاط ، ولهو نغمي مفرح وراقص يوقف بكري كردي من خلال ذلك ، اللوحة الموسيقية ، وينقر بالإيقاع على سطع آلة العود التي يمسك بها وبأسلوب إيقاعي جميل ولذيذ وداع فيه إلى الحركة والنشاط ولينتقل معه أيضاً من مقام النهاوند إلى مقام البياتي والمصور على درجة النوى (SOL ) مخبراً فيه حبيبته عن حال دمعته وحقيقتها ، وبأسلوب رشيق ، وحركات جميلة جداً ومهيجة للنفس ومطيبة للروح ، وكل ذلك كان كائناً عند قوله : هذه اللؤلؤة البيضاء ليست سوى قلبي استوى في الآنية ........................ يا هاوية ......................... أترى تلفظها العين وكيف تُرى تلفظها مجافية ........................يا جافية ********************************************************* ونلاحظ مدى توفيقه وبراعته في تكراره اللحني الراقص عند حرفيّ ( يا ) ونلاحظ أنه يسوق ( يا ) في تكراه للوحة وضمن المرة الثانية بحركات هي اعلى من حركاته ولهوه معها وضمن المرة الاولى ومما يزيد المتابع المستمع طرباً ونشوة ، ومتعةً ولذّة ثم ينتهي وينتقل لحال الإنقباض والحزن مرة ثانية عندما يصور مقام النكريز على صوت ( F) وذلك عند قوله : إن عيناً ليس فيها عبرة من جنى الوجد لعينٌ ساهية ويصول ويجول اللحن فيها مخبراً وشاكياً متحسراً .. ونلاحظ مدى الإحساس الجميل في العزف حينما تابع المد في لفظة ( يا ساهية ) صوتاً ، وظلله بعزف موسيقي جميل مرادف له ومن أبدع ما يكون لينتهي اللحن والكلام وبصورة حزينة من جديد ، وبحال تقريري إخباريّ ، ينهي الرسالة ، وشرح الحالة هذا اللحن غناه أيضاً الفنان صباح فخري وهو موجود بتسجيلين على ما أذكر : تسجيل إذاعي اشرف عليه المرحوم بكري كردي وبنفسه ، وتسجيلٌ آخر ضمن حفلة غنائية قديمة وبالرغم من توفيق صباح فخري في غنائه للحن وبصورة ممتازة إلا أنّي أفضل سماعه من ملحنه المرحوم بكري كردي وبرغبة أدعى وأكثر ، وشتّان عندي فيما بينهما
@monakhezzani63659 жыл бұрын
شكرا محمد.
@rakiarakia55909 жыл бұрын
نفيسة جدا ونادرة ايضا كلحن ، وشجن ،،
@osamab8148 жыл бұрын
+mehmed ali Bahri شكرا أستاذي على التحليل
@mohamedhomsi1615 жыл бұрын
الله يرحمه صوته وألحانه أجمل من محمد عبد الوهاب ولكن لﻷسف لم يأخذ حقه
@moldovankm9 ай бұрын
الله يعطيك العافيه استاذ على التحليل الروعة...فعلا قمة
@makhor1005 жыл бұрын
رحمك الله و تغمدك برحمته يا حنون
@abdulilahhasan52035 жыл бұрын
و تحليلك نفيس كالعادة ايها الاستاذ
@mhammdpnshe33975 ай бұрын
في كلمتين بقولن قبل القصيدة الي بعرفهن يفيدنا والو جزذل الشكر