Рет қаралды 969
ألبير كامو: ولادة عبقري بين شمس الجزائر وظلال العبث
بين ظلال الفقر واليتم، وآلام مرض السل، ونور شمس الجزائر الحارقة، وعذابات عالم مزّقته النزاعات والحروب، رسم ألبير كامو Albert Camus مسارًا فريدًا جمع بين التمرد والإنسانية.
فمن يكون هذا الطفل الفقير المنحدر من الأحياء الشعبية للجزائر العاصمة، والذي حاز لاحقًا على جائزة نوبل في الأدب؟ ومن هو هذا الفيلسوف الذي غاص في أعماق العبث؟ ومن هو هذا الكاتب والمسرحي الملتزم الذي حوّل خشبة المسرح إلى منبر للأفكار المتمرّدة؟
وُلد ألبير كامو Albert Camus في قرية الذرعان، والتي تُعرف أيضًا ببلدة موندوفي Mondovi ، بالقرب من مدينة قسنطينة في شرق الجزائر، في 17 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني سنة 1913. عاش ألبير كامو قسوة الحياة منذ طفولته المبكرة، إذ فقد والده، لوسيان كامو Lucien Camus ، الذي كان جنديًا في الجيش الفرنسي، خلال معركة المارن في الحرب العالمية الأولى، وذلك في 11 من شهر أكتوبر/تشرين الأول سنة 1914، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز سنة واحدة. بعد رحيل الأب، أصبح الطفل اليتيم من مكفولي الأمة الفرنسية.
نشأ الطفل ألبير مع شقيقه لوسيان Lucien في كنف جدتهما الصارمة، داخل منزل متواضع في حي بلكور Belcourt الشعبي، المعروف اليوم بحي بلوزداد، في الجزائر العاصمة. كانت والدتهما، كاثرين هيلين سينتيس،Catherine Hélène Sintés ذات الأصول الإسبانية، امرأة أمّية لا تعرف القراءة والكتابة، وتعاني من صمم جزئي، وتعمل معينة منزلية. ورغم ذلك، كانت بصبرها وإصرارها نموذجًا للمرأة الكادحة التي تعيش بكرامة وسط أجواء الفقر المدقع في جزائر مطلع القرن العشرين.
ترك الفقر وغياب الأب أثرًا عميقًا في نفس ألبير كامو، فغرس فيه إحساسًا مرهفًا تجاه العدالة وتعاطفًا قويًا مع الفقراء. وكان يكنّ لوالدته، التي أحاطته بعطف كبير، حبًا مقدسًا. هذه المرأة الصامتة، التي عاشت تحت وطأة جدته المتسلطة، كانت تتحمل أعباء ثقيلة وخفية. وقد كان كامو Camus يردد دوما بمرارة: "أحب أمي بيأس لا يعرف حدودًا"، وقد أهدى إليها لاحقًا روايته الإنسان الأول، وكتب في نص الإهداء هذه الكلمات المؤثرة: "إليكِ يا من لن تستطيعي أبدًا قراءة هذا الكتاب."
في سن الخامسة، التحق ألبير كامو بالمدرسة الابتدائية. كان طفلًا نابغة ومجتهدًا، وقد لفت انتباه مدرّسه لوي جيرمان Louis Germain، الذي أدرك موهبته الاستثنائية وشجّعه على مواصلة تعليمه، رغم مخاوف والدته من عدم قدرتها على تحمل تكاليف الدراسة. لعب المعلّم لوي جيرمان دور الأب البديل في حياة كامو، حيث دعمه بقوة وشجّعه على التقدم لاختبار نيل منحة دراسية. وبفضل هذا الدعم، حصل كامو على منحة مكّنته من متابعة دراسته، وهو أمر نادر لطفل ينتمي إلى الطبقات الفقيرة.
تحت شمس الجزائر الحارقة، اكتشف ألبير كامو شغفه برياضة كرة القدم. كان حارس مرمى في فريق راسينغ الجامعي الجزائري، ووجد في هذه اللعبة الشعبية متعة كبيرة. في رواية الإنسان الأول، يستعيد ذكريات تلك الأيام، فيقول: "كنا نلعب كرة القدم غالبًا بكرة من القماش، ونشكل فرقًا عفوية من الأطفال العرب والفرنسيين." وقد تركت كرة القدم أثرًا لا يُمحى في نفسه، حيث كتب لاحقًا: "كل ما أعرفه عن الأخلاق، تعلمته من كرة القدم."
كان من المحتمل أن يصبح ألبير كامو لاعب كرة قدم محترفًا، لكن حلمه تحطم ذات يوم في شهر ديسمبر/كانون الأول من سنة 1930، عندما اكتشف، في ربيعه السابع عشر، إصابته بداء السل. لم يكن هذا المرض مجرد تجربة جسدية قاسية، بل كان نقطة تحوّل غيّرت مجرى حياته؛ إذ أجبره المرض على ترك الدراسة والتخلي عن ممارسة رياضة كرة القدم. حتى البحر، الذي كان ملاذ طفولته في الجزائر العاصمة، حُرِم من معانقة أمواجه التي طالما أودع فيها شغفه بالحرية. خاض كامو معركة صامتة مع المرض، متحملًا علاجًا شاقًا لم تكن نجاعته يقينية، ومواجهًا هشاشة الوجود بشجاعة تليق بروح مفكر عاشق للحياة.
بعد خروجه من المستشفى، انتقل ألبير كامو للعيش مع خاله غوستاف أكّو Gustave Acault ، الذي كان يعمل جزارًا، لكنه كان مولعًا بأفكار الفيلسوف فولتير Voltaire ومساندًا للحركة الأناركية. في منزل خاله، وجد كامو مكتبة غنية أثارت شغفه بالقراءة والتأمل، وشجّعته على استكشاف درر الأدب الكلاسيكي.
بعيدًا عن ملاعب كرة القدم، وجد ألبير كامو في الكتابة ساحة أخرى يعبر فيها عن ذاته، ويتصدى بها لصعوبات الحياة. وقد كتب لاحقًا: "أردت أن أصبح كاتبًا عندما كنت في السابعة عشرة من عمري، وكان لي شعور غامض أنني سأصبح كذلك."
يا للمفارقة، فمرض السل، الذي أجبره على ترك قفازات حارس المرمى، هو ما دفعه إلى الإمساك بقلم الكتابة.
في أكتوبر/تشرين الأول من سنة 1931، استأنف ألبير كامو دراسته في قسم الفلسفة على يد أستاذه جان غرينييهJean Grenier ، مؤلف كتاب رائع عنوانه الجزر. كان لهذا العمل الأدبي، الذي يتناول قضايا العزلة والخيال والبحث عن الذات، تأثير عميق على كامو. في تلك الفترة، اطلع كامو على أعمال عدة مفكرين مثل شوبنهاور وباسكال، وأدباء مثل دوستويفسكي وأندريه جيد وأندريه مالرو. لكن التأثير الأكبر على المسار الفكري لكامو جاء من الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه. كتب كامو لاحقًا: "أنا مدين لنيتشه بجزء كبير مما أنا عليه."
جمع بينهما، بالإضافة إلى التقارب الفكري، المعاناة الجسدية المشتركة بسبب المرض- فبينما عانى نيتشه من مرض الزهري، عانى كامو من مرض السل - مما ساهم في تطوير رؤية فلسفية مشتركة لديهما، حيث يقف التمرّد الفلسفي في مواجهة عبثية الوجود. كان كامو يردد؛ إمّا ان نموت أو ان نترك بحر الملذات يجرفنا لننسى فكرة الموت.
حين تسلّم جائزة نوبل سنة 1957، قال ألبير كامو : "بلا شك، يحاول كلُّ جيلٍ إعادة تشكيل العالم. إنما جيلُنا يدرك أنه لن يستطيع القيام بذلك. لكن مهمَّته قد تكون أكثر أهمية، فهي تكمن في منع تفكّك العالم."
فكيف سيساهم ألبير كامو، من خلال أعماله، في منع تفكك العالم؟
✍️نجيب البكوشي باحث وكاتب تونسي