Рет қаралды 227,061
لمتابعة مع تميم
/ ajplussaha
الشعر والسياسة
****
أقول الشعر لأسباب كثيرة، معظمها لا أعلمه، لكن أحد الأسباب التي أعيها، الدفاع عن النفس.
قبل أن أكمل الشهور الخمسة كانت السلطات المصرية تطلب من والدي مغادرة البلاد. كان الرئيس المصري قرر أن يسالم إسرائيل فأمر بترحيل كل من كانت له علاقة بمنظمة التحرير الفلسطينية في مصر وإغلاق دار إذاعتها حيث كان الوالد يعمل. فأدركت مبكراً معنى السلطة، ذلك الكائن الشبحي الذي يتعدى على حياة المرء. أرى أناساً يطيعون رجلاً لم يقابلوه بتاتاً، ويرتكبون الظلم الذي يأمرهم به، فقط لأن شيئاً ما في رؤوسهم، ورؤوس مدرائهم يقول لهم إنه أقوى منهم. فرحت أبحث عن هذه العلة التي في الرؤوس والتي يسمونها الطاعة. فوجدتها مبنية من أسماء وألقاب. سمعوا أن فلاناً تلقب بلقب رئيس الجمهورية فأطاعوه. وقبل ذلك سمع آباؤهم من غزاتهم وورثتهم أن بلادهم تغير اسمها من خلافة كبيرة إلى سلطنة صغيرة إلى محمية بريطانية إلى مملكة إلى جمهورية، وأن عليهم طاعة كل اسم من هذه الأسماء في زمانه. وأن سلسة الطاعة هذه هي التي أتت بالشرطة على باب بيتنا وأنا في المهد لتغير حياتي.
استقر بأبي الترحال، بعد بغداد وبيروت، في إحدى البلدان الأوروبية، وكان شمل الأسرة يلتئم في الإجازة الصيفية. وكانت مدرستي في دار الحضانة تصر على أن اسم تميم هو تعريب لاسم توماس المنتشر في تلك البلاد، ولم ينجح الوالدان في إقناعها بأن اسم تميم هو اسم قبيلة عربية قديمة غير مشتق من توماس. وحين أصبحت في سن القراءة، عرفت أن تُوماس هو النطق اليوناني ثم اللاتيني ثم الأوروبي عموماً لاسم تُوما الآرامي. وتوما بالأرامية تعني التوأم، والتوأم اسم يطلق على أحد أخوين يولدان من حَمْلٍ واحد، فإن لم يكن للتوأم أخ فهو ليس بتوأم، فهو محتاج إلى آخر ليكون نفسه، وعند العرب القدامى كان التوأم يُظن ناقصاً أو ضعيفاً لأن غيره يشاركه الرحم، وفي معلقة عنترة يصف رجلاً قوياً قال:
"بَطَلٌ كَأَنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ
يُحْذَى نِعَالَ السِّبتِ لَيْسَ بِتَوْأَمِ"
أما اسمي فتميم، وهو من تمَّ تماماً، وهو صيغة مبالغة، فكأنه الشديد التمام. فمدرستي كانت في ترجمتها لاسمي تغير معناه إلى العكس منه تماماً. ومدرستي كانت طيبة حسنة النية، ولكن الاستعمار الذي أخذ على عاتقه عنوة دور المربي والمعلم للشعوب المغزوة، كان يغير أسماءنا عن عمد، وينقلنا من أمة تامة، إلى شعوب توائم يحتاج كل منها إلى شقيقه ولا يصل إليه. وفي اللغة العربية ما يبين ذلك، فنحن لا نستخدم لفظ الأمة للإشارة إلى سكان الأقطار التي رسم حدودها الغزاة، بل نسميهم شعوباً، والشَّعْبُ من شَعَبتَهُ فانْشَعَبَ انشعاباً، أي كَسَرْتَه فَانْكَسَرَ وانفصل عن بقيته.
أقول رسم القادة العسكريون لقوى الاحتلال في أوائل القرن الخطوط على الأرض وسموها دولاً، ثم طُلب منا أن نسميها بلادنا، وأن نطيع من يحكمها، وما أكثرها إلا أجهزة أمن متضخمة ورُكِّبَ عليها عَلَمٌ وَنَشِيدٌ وَحَرَسُ حدود، جيوشها شرطة وحكامها وسطاء، ثم باتت تتحكم هذه الكائنات ذات الحدود والأسماء التي لم نخترها في أعمارنا وأعمار أهلنا وأعمار أولادنا.
والشعر استعادة للسيادة على الأسماء، كتسميتك الموت استشهاداً أو الغضب حباً، والنار شجرة، والشمس غزالة. الشعر استعادة للحرية، في السياسة ترسم الدبابات والهراوات اسم بلادي، وفي القصيدة أسميها ما أشاء، وكل سلطة غاشمة لا تكمل إلا في خيال المحكوم، والخيال يصنعه الكلام، والشعر أكفأ الكلام. لا أعني أن المرء يقول قصيدة فينقلب العالم، ولكن خلخلة ولو بسيطة في بنية السلطة تتولد من كل جمال يتحداها.
"وإن النار بالعودين تذكى
وإن الحرب أولها الكلامُ"
والكلام لا يُحتل ولا يُقسم ولا تؤثر فيه الأسلاك الشائكة. فإن كانوا احتلوا الأرض فإنهم لم يحتلوا الخيال، وإن كانوا قسموا البلاد فإنهم لم يقسموا اللغة. القصيدة الجميلة، أياً كان موضوعها، تهدد قصوراً ودبابات وأسلاكاً شائكة كثيرة.
ثم في السياسة هم يصنعون العالم وأنا أدرسه.
في الشعر، أنا أصنع العالم وهم يدرسونه.
#مع_تميم
Tamim Al-Barghouti
لمتابعتنا على
/ ajplusarabi
/ ajplusarabi
موقعنا: ajplus.net/arabi